هل تصلح الرياضة ما أفسدته السياسة؟!


المتابع للحالة الرياضية عمومًا؛ سواء كانت دولية أو قارية أو محلية، يجد أن هناك ازدحاما شديدًا بالأحداث الرياضية المختلفة والمتلاحقة أيضًا؛ حيث نجد أن العالم ما أن يلبث الانتهاء من حدث رياضي حتى يلاحقه حدث آخر، وعلى جميع المستويات؛ سواء كان هذا الحدث دوليًا أو قاريًا أو محليًا.
وبالطبع فازت كرة القدم بالاهتمام الأكبر والأعظم، وأصبحت البطولات المتعلقة بتلك اللعبة محط أنظار واهتمام السواد الأعظم من سكان المعمورة، ولِمَ لا وهي اللعبة الشعبية الأولى وسيدة الرياضات دون منازع، وأصبح الحدث الكروي هو الحدث الأكبر جذبًا من حيث الأعداد الغفيرة من المتابعين؛ سواء كانوا جمهورًا أو صحافين وإعلاميين أو ممن لهم مصالح وأعمال تتم على خلفيات هذه البطولات، مثل: السماسرة، ووكلاء لاعبين، أو محلليين ومعلقين فنيين.
إلا أنه- مع هذا الازدحام الشديد في البطولات والاهتمامات- يغيب عن الكثير من المهتمين أن الرياضة، ولاسيما كرة القدم، لم تصبح فقط وسيلة للتسلية والإلهاء وإضاعة الوقت، ولكن مع تطور آليات العمل الإعلامي حاليًا، وسهولة وسرعة الاتصالات، والمرونة التي تنتقل بها المعلومات، أصبحت تلك الرياضة وما يتعلق بها من أحداث وبطولات ضيفًا دائمًا على موائدنا الحوارية، وأصبح الحدث الرياضي الكروي هو الحدث الأكبر تناولاً للحديث بين المتحاورين.. كل هذا في ظل التأثير الإعلامي الكبير، الذي يقع على فكر ووجدان المشاهد، خاصة أن الإعلام بجميع أجهزته أصبح أمرًا واقعًا داخل كل بيت شاء أم أبى أصحابه؛ حيث أصبح أسلوب المنع والحجب طريقًا غير مجدٍ في التعامل مع تلك الأحداث؛ حيث يمارس الإعلام ضغوطًا وإغراءات تدفع- وبشدة- في اتجاة متابعة تلك الأحداث الكروية، التى جذبت إليها الكبير والصغير.
والدعوة هنا إلى استثمار تلك الأحداث الرياضية؛ لكي تكون وسيلة من وسائل التقارب بين الأفراد والشعوب، وسيلة لتعزيز وغرس الانتماء داخل النفوس، وأيضًا دعوة لكي لا تصبح مبارايات كرة القدم وسيلة للتنافس والتعصب البغيض، ولكن لتتحول هذه المباريات إلى (كرنفالات) احتفالية، يطغى عليها جو من البهجة والصفاء، أو تستغل مثل تلك البطولات والمسابقات لتكريس معاني أعمق وأهم من أن نحصر أهدافنا من متابعة تلك البطولات في التشجيع الأهوج وغير المنظم، وهذا ما قامت به الكثير من الدول التي فطنت إلى استغلال هذه المناسبات الرياضية كوسيلة من وسائل التقارب، بل ذهب البعض إلى أبعد من ذلك؛ حيث أصبحت المؤسسات الرياضية ما هي إلا صورة من صور الاستثمار في تلك الدول، وهذا يتضح لنا إذا علمنا أن الأندية الأوروبية ذات الأسماء الرنانة ما هي إلا شركات لها اكتتاب عام، وتطرح أسهمها داخل البورصات العالمية، وأوضح مثال على ذلك ناديا (ريال مدريد) الإسباني و(اليوفينتوس) الإيطالي، بل إن البطولات الكروية ما هي إلا فرصة للاستثمار وللجذب السياحي ولتوضيح الصورة الجيدة للبلدان والشعوب؛ ولذلك نجد أن هناك تنافسًا شديدًا بين الدول لنيل حق استضافة مثل تلك البطولات.
وهناك بعض الأمثلة التى حاول فيها أصحابها محو الآثار السيئة لكثير من الأحداث التي أفسدتها السياسة والتناحر القبلي والعرقي بين أبناء دولة ووطن واحد، مثلما حدث مع المنتخب الرواندي لكرة.. فبعد عشر سنوات على عملية الإبادة البشعة التي شهدتها رواندا، فإن منتخب كرة القدم الوطني المشارك في نهائيات كأس أمم إفريقيا في تونس للمرة الأولى في تاريخه مؤلف من القبيلتين اللتين كانتا متناحرتين في ذلك الوقت: (الهوتو) و(التوتسي).
وبعد عشر سنوات من التناحر وسقوط نحو مليون قتيل، خرج المنتخب الوطني بتوليفة من لاعبي القبيلتين، لكن الاتحاد الوطني رفض تحديد انتمائهم؛ لأن هذا الأمر مُجرَّم منذ نهاية عملية الإبادة.
وفي تصريح لرئيس الاتحاد الرواندي لكرة القدم "سيزار كاييزاري" قال: "عندما نكون موجودين في الملعب، فلا وجود لتوتسي أو هوتو، فنحن جميعنا من رواندا".. ويبدو أن لسان حال الرأي العام مماثلاً لما صرح به رئيس الاتحاد؛ إذ يقول "جول نسامبيمانا"- وهو أستاذ يتابع دائمًا مباريات كرة القدم في العاصمة الرواندية (كيغالي)-: "الملعب هو المكان الذي ينسى فيه الروانديون خلافاتهم، فالانتماء العرقي غير موجود إطلاقا"، وتعتبر كرة القدم اللعبة الأكثر شعبية في رواندا كحال بقية دول العالم.
كما أن هناك تجربة، ولكن أبطالها هذه المرة مسلمون؛ حيث تواردت أنباء عن استعداد رابطة كرة القدم للمسلمين في ولاية كاليفورنيا لتنظيم دورة ثانية من المباريات، دعت للمشاركة فيها فرقًا من مختلف الأديان في مسعى جديد من مسلمي الولايات المتحدة لإبراز الصورة السمحة عن الإسلام، وإبراز حرص المسلمين على التواصل مع أتباع الديانات الأخرى، ونفي الادعاءات التي تروجها بعض الأوساط الغربية عن "ميل الإسلام للعنف ودعم الإرهاب"، بحسب الرابطة.
وأوضحت صحيفة (شيكاغو تريبيون) الأمريكية الجمعة 23/2/2004م أن الدورة ستعقد في صيف 2004م بمدينة (أورنج كونتري) في كاليفورنيا، مشيرة إلى أن الرابطة ستوجه الدعوة لفرق مسيحية وأخرى يهودية في محاولة "لإشاعة روح الود بين أتباع الديانات وتنحية القضايا السياسية جانبًا"، ومن خلال تلك الدورات يتضح أن المسلمين يريدون أن يحولوا تلك الدورة الكروية إلى فرصة للاتصال بالآخرين وفي الوقت نفسه يمارسون هواية مفضلة هي لعبة كرة القدم.
وهذه المبادرة من مسلمي كاليفورنيا تأتي في إطار المساعي التي تبذلها الجالية الإسلامية الأمريكية لمواجهة الهجمة الشرسة التي يتعرضون لها منذ هجمات 11 من سبتمبر 2001م، وكان مجلس العلاقات الإسلامية الأمريكية (كير) قد أكد في الذكرى الثانية لتلك الهجمات أن "ألفي مسلم تعرضوا للمضايقات والتمييز خلال الشهور القليلة التالية للهجمات وسط موجة من الغضب، شعر بها الأمريكيون تجاه المسلمين؛ متذرعين بهوية المتهمين بارتكاب الهجمات".
وزادت أشكال التشويه التي تتعرض لها صورة الإسلام والمسلمين بشكل غير مسبوق منذ سبتمبر 2001م، فقد أشار استطلاع لتوجهات الرأي العام الأمريكي تجاه الإسلام والمسلمين، نشره مركز "بيو" الأمريكي للأبحاث في يوليو 2003م أن 44% من الأمريكيين يرون أن الإسلام "يشجع على العنف أكثر من الأديان الأخرى"، كما زادت نسبة الأمريكيين الذين يعتقدون أن "المسلمين يعادون أمريكا" إلى 49%.
كما أن التصريحات المتكررة للمسئولين عن الرياضة فى بلادنا العربية هي أبلغ دليل على أن كرة القدم فرصة من فرص التلاقي وتعزيز الانتماء، كما فى تصريح د. "علي الدين هلال"- وزير الشباب المصري- الذى صرح معقبًا على خروج المنتخب المصري لكرة القدم من الدور الأول خلال فاعليات بطولة كأس الأمم الإفريقية المقامة بتونس بقوله: إن "وزير الشباب شخصيًّا يدرك تمامًا أهمية لعبة كرة القدم في حياة الشعب المصري، وإن حالات الانتصار تسهم في تفاعل الشعور بالانتماء الوطني، وإن ما حدث من انكسار لابد من إزالة أسبابه، حتى إن كانت الحلول بها بعض المرارة، ولكنها الحالة الاستثنائية التي يجب خلالها اتخاذ مواقف فورية وحازمة".
وكرة القدم عامل أساسي في تشكيل أولويات الشعوب، ومؤثر قوي من المؤثرات في العلاقات السياسية بين الدول، فكما هي وسيلة من وسائل التقارب (هذا إذا استغلت استغلالاً جيدًا) فهي في بعض الأحيان إذا لم تستثمر الأحداث الكروية استثمارًا جيدًا من الممكن أن تتحول فاعلياتها إلى أحداث مليئة بالشحن الجماهيري والعصبي؛ حيث إن التعصب الكروي من شأنه أن يفسد العلاقات بين الشعوب أو الشعب الواحد، بل من الممكن أن يصل الحال إلى اشتعال حروب مثلما حدث بين الأرجنتين وبوليفيا حينما تحولت مبارة لكرة القدم بين منتخبي البلدين إلى أحداث شغب وعنف؛ وهو ما أدى إلى إعلان كلتا الدولتين الحرب على الأخرى، وبالفعل حدثت اشتباكات حدودية بين الدولتين!
والأمر في منطقتنا العربية لم يصل إلى هذه الدرجة، ولكن الكثير من المباريات التي يكون طرفيها دولتين عربيتين تتحول إلى ساحة للعراك والتلاكم بين الفريقين، وغالبًا ما تنتهي بأحداث شغب بين الجمهور وأفراد الأمن، وليست مباراة المغرب والجزائر منا ببعيد.
يساعد في ذلك أن المؤسسات الداعية لمثل تلك البطولات لا تراعي أبعادًا أخلاقية واجتماعية في دعايتها لمثل تلك المباريات، فيتم شحن الجماهير بدعاية عصبية، تدل في محتواها على جهل شديد بالغرض الذي من أساسه جُعلت مثل تلك الرياضيات..
إن هذه الرياضيات أُسست لتلاقي الشعوب ووحدتها، ولتتنامى جسور الودِّ والمحبة بين الشعوب، ولكننا للأسف نجد من أبواقنا الإعلامية والمؤسسات القائمة على هذه الرياضيات والمسابقات تصريحات ودعاوى للأسف تساعد على اشتمال مثل تلك المباريات أقوالاً، مثل: مباراة حياة أو موت.. مباراة المصير.. التحدي الأكبر.. وأغرب ما قيل من مثل تلك التصريحات ما صُرح به في إحدى الإذاعات- وهي الأشهر عالميًّا- تعليقًا على مباراة منتخبي الجزائر ومصر؛ حيث وُصفت المباراة بمباراة إرث العداء الكروي.
ومع الكثير من مثل تلك المقولات- التي يكون لها تأثير بالغ السوء على الجمهور، وتؤجج مشاعر الكره والبغض- فقدت الرياضة دورها الأساسي الذي من المفترض أن تلعبه من تقريب الإنسانية وتكريس معاني الحب والإخاء، وأصبح جل اهتمام القائمين على مثل تلك الرياضات حصر اهتمامات الناس في مفاهيم ضيقة، مثل: النقاط المتحصلة من المباريات، والفوز بالبطولات مع أهميته، ولكن هناك ما هو أبقى وأفيد للأمم والشعوب؛ وهو نقاء العلاقة بين تلك الأمم، وتكريس معاني الوحدة والتكاتف.
فهل يعي القائمون على الرياضة في بلادنا مثل تلك الأمور؟! نسأل الله التوفيق للجميع.

0 التعليقات:

رسالة أحدث رسالة أقدم الصفحة الرئيسية